خوف المسلمين وعمر من جيش الروم في اليرموك
نورد خلاصة بعبارة الواقدي وابن الأعثم ، قال الواقدي في:١/١٦٣: (ثم إن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان ملك الأرمن ، وأمره بالنهوض الى قتال المسلمين وركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق الرحيل ، وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره...
وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة ، وكانوا لا يمرون على بلد ولا مدينة الا أضروا بأهلها ، ويطالبونهم بالعلوفة والإقامات ولا قدرة لهم بذلك فيدعون عليهم ويقولون : لاردكم الله سالمين .
قال وجَبْلَة بن الأيْهم (رئيس غسان ومن معها) في مقدمة ماهان ومعه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام.... وجعل الجواسيس يسيرون حتى وصلوا الى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة وأخبروه بما رأوه من عظم الجيوش والعساكر ، فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبات قلقاً لم تغمض له عين خوفاً على المسلمين....
قال عطية بن عامر : فوالله ما شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذْ سدَّ بكثرته الوادي ! قال: ونظرت الى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ، وأبوعبيدة يقول : ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
ثم ذكر/١٧٨رسالة أبي عبيدة الى عمر فقال عمر : (ما تشيرون به عليَّ رحمكم الله تعالى؟ فقال له علي بن أبي طالب : أبشروا رحمكم الله تعالى ، فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله....قال لعمر : يا أمير المؤمنين أكتب الى عاملك أبي عبيدة كتاباً وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا ).
وقال ابن الأعثم في:١/١٧٩: (وبلغ أبا عبيدة بأن ماهان وزير هرقل أقبل في عساكره حتى نزل مدينة حمص في مائة ألف ، فاغتم لذلك... قال ثم تكلم قيس بن هبيرة المرادي فقال : أيها الأمير هذا وقت رأيٌ نشير به عليك ، أترانا نرجع إلى بلادنا ومساقط رؤوسنا ، وتترك لهؤلاء الروم حصوناً ودياراً وأموالاً قد أفاءها الله علينا ونزعها من أيديهم فجعلها في أيدينا ، إذن لا ردنا الله إلى أهلنا أبداً إن تركنا هذه العيون المتفجرة والأنهار المطردة والزرع والنبات والكروم والأعناب والذهب والفضة والديباج والحرير ، والحنطة والشعير ! ونرجع إلى أكل الضب ولبوس العباءة ، ونحن نزعم أن قتيلنا في الجنة يصيب نعيماً مقيماً ، وقتيلهم في النار يلقى عذاباً أليما ! أُثبت أيها الأمير وشجع أصحابك وتوكل على الله ، وثق به ولا تيأس من النصر والظفر . قال فقال أبوعبيدة : أحسنت يا قيس ، ما الرأي إلا ما رأيت ، وأنا زعيم لك ، ولا أبرح هذه الأرض حتى يأذن الله لي ) . انتهى.
أقول : يدل هذا النص على أن خوف بعض المسلمين من الروم قد بلغ مداه ! وأن المعادلة الدنيوية كانت غالبة عليهم ، لكن بعضهم غلبت عليه الطمأنينة والمعادلة الدينية ، كما رأيت في اطمئنان علي (ع) بالوعد النبوي بهزيمة الروم .
وقال الواقدي عن نجدة مالك وخالد الى اليرموك قال:٢/١٩٢: (فلما وصلوا إلى عين التمر استعجل للنصرة ، فترك الجيش وسار في سبعين فارساً ، وأتت بقية السبعمائة بعد ذلك ، وكان معه قيس بن عبد يغوث وقيس بن أبي حازم وسعيد بن نزار ومالك الأشتر النخعي ، فتقدم هاشم وقيس معه في السبعين).
وقال الواقدي:١/٢٢٤يصف المعركة ونصيحة البطاركة لبطلهم ماهان :
(أيها الملك لا تخرج الى الحرب حتى نخرج نحن الى القتال قبلك ، فإذا قُتلنا فافعل بعدنا ما شئت .
قال: فحلف ماهان بالكنائس الأربع لايبرز أحد قبله ! قال فلما حلف أمسكوا عنه وعن مراجعته، ثم إنه دعا بابن له فدفع اليه الصليب وقال : قف مكاني ! وقُدِّم لماهان عُدَّة فأفرغت عليه .
قال الواقدي : وبلغنا أن عدته التي خرج بها الى الحرب تقومت بستين ألف دينار ، لأن جميعها كان مرصعاً بالجوهر ، فلما عزم على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال : أيها الملك ما أرى لك الى البراز سبيلاً ولا أحبه لك .
قال : ولم ذلك؟ قال: لأني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز .
فقال ماهان : لست أفعل والقتل أحب اليَّ من العار ! قال فبخروه وودعوه .
وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوَّف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال : هذا ماهان ، هذا صاحب القوم قد خرج ! ووالله ما عندهم شئ من الخير ! قال وماهان يُرَعِّب باسمه ، فخرج اليه غلام من الأوس وقال : والله أنا مشتاق الى الجنة وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه الى الجنة !
قال أبوهريرة : فنظرت الى الغلام عندما سقط وهو يشير بإصبعه نحو السماء ولم يهله ما لحقه ، فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين .
قال : فجال ماهان على مصرعه وقويَ قلبه ودعا الى البراز فسارع المسلمون اليه فكل يقول اللهم اجعل قتله على يدي (!) وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له : أيها العلج لا تغتر بمن قتلته وإنما اشتاق صاحبنا الى لقاء ربه ، وما منا إلا من هو مشتاق الى الجنة ، فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فأنت هالك لا محالة ! فقال له ماهان : أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال : لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله (ص) ! فقال ماهان : لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال ، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشَتَرتْ عينه فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر ، قال : فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه فدبَّرَ نفسه وعلم أن الله ناصره ، قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً ، وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ! وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك ، قال مالك : فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله (ص) وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن فعلمت أن الأجل حصين ، فلما أحس ماهان بالضربة ولَّى ودخل في عسكره !
قال الواقدي : ولما ولى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزماً صاح خالد بالمسلمين : يا أهل النصر والبأس إحملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ، ثم حمل خالد ومن معه من جيشه ، وحمل كل الأمراء بمن معهم ، وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر ، حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم ، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا ). انتهى.
أقول : يفهم من الرواية أن مالكاً ضرب قائدهم ماهان ففرَّ جريحاً ، فذهل الروم وتغيرت كفة المعركة لصالح المسلمين ! لكن المرجح أنه قتله فبرز اليه آخران فقتلهما ، ثم ثمانية من قادة جيش الروم ، أو بطاركتهم كما يسمونهم !
فقد روى الكلاعي في الإكتفاء:٣/٢٧٣، واصفاً الأشتر : (كان من جلداء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وأنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة ) ! انتهى.
بل تشير رواية الطبري:٣/٧٤ ، التالية الى أن ماهان قُتل من ضربة الأشتر : (عن عبد الله بن الزبير قال : كنت مع أبي الزبير عام اليرموك فلما تعبأ المسلمون.....
فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب من الروم أهل أرمينية والمستعربة سبعون ألفاً وقتل الله الصقلار وباهان ، وقد كان هرقل قدمه مع الصقلار) . انتهى.
وستعرف أن رواة السلطة يحرصون على طمس بطولات من لايحبونهم أوسلبها منهم ونسبتها الى أتباع السلطة ، وهذا هو السبب في نسبتهم قتل ماهان الى مجهول ! أوقولهم إنه اختلف في الذي قتله ! وكذلك طمسهم مبارزات الأشتر الأخرى ، وأسماء قادة الروم الأحد عشر الذين قتلهم (رحمه الله) .
المصدر : موقع الشيخ علي الكوراني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق