مخطوطات في المآتم النسائية في البحرين
رملة عبدالحميد
تفاعلت المرأة في البحرين مع الموسم العاشورائي ، وأصبحت جزءا من منظومته ، وساهمت بشكل فعال في إحياء شعائره . لم يؤرخ لبدايات المآتم النسائية في البحرين وتطورها ، ولكن على ما يبدو من خلال لقائي من التقوا المؤسسات الأوائل لها أو سمعوا عنها ، أن تأسيس المآتم النسائية – التي عرفت آنذاك بالحسينية - في البحرين ، يرجع إلى مطلع القرن الماضي ، حيث كانت النساء تستمع مسبقا إلى مجال الرجال عبر غرف مجاورة .
بدأت المآتم النسائية في البحرين صغيرة ، ففي كل حي أو لدى كل عائلة معروفة يوجد مأتم ، ولم تدرج الخطابة فيه لعقد من الزمن ، كما أن المجلس الحسيني كان يستغرق وقتا من الزمن يتراوح بين 3 و 4 ساعات ، نظرا إلى تناوب ما يفوق عشر قارئات على القراءة ، ضمن تدرج معهود فيها .
يختلف المأتم النسائي عن مأتم الرجال في التنظيم والأسلوب ، وإن كان ما يجمعها هو القراءة الحسينية . قامت المآتم النسائية على الشراكة بين المنظمات أو أصحاب المأتم ، والقارئة الكبيرة ومن معها من القارئات ، وغالبيتهن طالباتها "الوليدات" ، وهي تعرف بالمعلمة ، إذ أن الأهالي يلحقون بناتهم بإحدى دور تعليم القرآن من أجل ان تكون إبنتهم قارئة في المأتم ، فتخضع لبرنامج تعليمي تدريبي يستمر من سنتين إلى ثلاث سنوات ، بحسب قدرتها وإمكاناتها ، فتتعلم قراءة القرآن الكريم بداية بإعراب جزء عم ، ثم تعلم القراءة السردية لبقية أجزاء القرآن الكريم ، لتنتقل بعدها إلى تعلم القراءة في كتاب "المنتخب" لفخر الدين الطريحي المتوفي في العام 1085هجرية /1674م ، وهو كتاب يتضمن خطبا ومراثي في الإمام الحسين ع .
بعد تخرجها من "المعلم" ، تلتحق بالمأتم الذي تديره معلمتها ، وتبدأ كقارئة مبتدئة بقراءة ما يعرف بالحديث ، وهو لقراءة لكتاب الطريحي ، ثم تتدرج بقراءة القصيدة ، ولها لحن خاص ، ومن ثم اللطمية )الردادية) ، حتى تتمكن من إجادة قراءة النعي ، وهو الرواية .
الرواية هي العمود الفقري في القراءة الحسينية النسائية في المأتم . عادة ما تقرأها كبار القارئات بلحن معين . هذه الروايات المختلفة لها مناسبات محددة تقرأ فيها ، في المآتم النسائية في البحرين ، وبخاصة القديمة منها ، التي تجاوز عمرها الزمني أكثر من قرن ، يوجد روايات على شكل مخطوطات عمرها أكثر من سبعين سنة ، وهي لا تزال موجودة في أدراج الكتب في المأتم ، ومكتوبة بخط اليد باللون الأسود على ورق كارتون غير مسطر ، ومغلفة بغلاف سميك ليس عليه عنوان أو أسم للكاتب .
في قريتنا الدير ، شمال محافظة المحرق في البحرين ، يوجد أكثر من 24 مأتما نسائيا ، بعضه حديث والآخر قديم ، من أقدم هذه المآتم في القرية ، مأتم الحاجية ، مأتم سلوم ، مأتم الشريفة ... ، قد اخترت من مكتبة مأتم الحاجية ، يعرف حاليا بمأتم الحاج عباس – ثلاثة كتب مخطوطة . أول كتاب كان بلا عنوان ، ويبدو أن كاتبه نقله من عدة كتب ، وهو يحتوي ثلاث روايات ، الرواية الأولى قصة مسيرة الإمام الحسين ع منذ خروجه من المدينة وحتى استشهاده . هذه الرواية تبدأ بقصيدة من 70 صفحة ، لم يشر الكاتب إلى اسم الشاعر الذي نظمها ، ولكن تبدو أنها تعود إلى الشيخ شهاب الدين الحائري الحلبي المعروف بالشواء الكوفي ومطلعها :
أفكر والصبا الحزين يفكر *** وأسعر ليلي والمصائب تسهر
تنتهي الرواية بقصيدة أيضا لم يذكر شاعرها . وبعد البحث ، أتضح أنها للشاعر البحريني الشيخ مغامس بن داغر الحلي ، المتوفي في سنة 850 هجرية وجاء في مطلعها :
لبني الهادي مناحي *** في غدوي ورواحي
صاح ما بقلبي صاحي *** ما لحزني من براح واحسيناه
ثم تأتي صفحة بيضاء ، لتبدأ بعدها الرواية الثانية ، وهي تحمل عنوان "نوحية العباس بن علي بن ابي طالب )عليه السلام )" ، وتروي قصة استشهاد العباس ، وتنتهي بقصيدة مطلعها :
للفتى العباس نوحوا *** وبسر الحزن بوحوا واشهيده
الرواية الثالثة في هذا المخطوط ، هي قصة مريم ابن عمران . الغريب في الأمر أن المآتم النسائية في البحرين تحيي ذكرى وفاة مريم ابنة عمران في السادس والعشرين من شهر صفر ، وتعتمد النساء في قراءة الذكرى على كتاب قديم في مقدمته "فيقول الفقير الذنب الأسير القاني محمد بن أحمد بن إبراهيم المقابي البحراني ، إني أسرد في هذا الكتاب الجليل بعض فضائل صاحب الإنجيل وما جرى له" ، وهي القصة التي رواها المؤلف مطابقة لما جاء في القرآن الكريم ، إلا أنه يتفرد برواية خاصة بمولد المسيح ، إذ يقول : "فلما أكملت مريم ستة أشهر ، وقرب وقت وضعها ، أشتد بها الطلق ، وأدركهت المخاض ... فاقبلت تمشي من دمشق ، فناداها جبرئيل وقال : يا مريم ، عليك بموضع النخلة ، فهي خير بقاع وأشرفها … فلما أصبح الصباح ، وكان ذلك يوم سوق ، أستقبلها الحاكة ، وكانت الحاكة أنبل صناعة في ذلك الزمان ... فقالت لهم مريم : أين النخلة اليابسة التي في أرض كربلاء ؟ فاستهزأوا بها وزجروها ... ثم استقبلها قوم من التجار ، فدلوها على النخلة اليابسة عند ضريح الحسين ... فوضعت في موضع قبر الحسين" ، معتمدا على ما أشارت له الآية الكريمو : "فحملته فانتدبت به مكانا قصيا" ، لكن التفاسير الشيعية ، كتفسير "الميزان" للعلامة محمد حسين الطبطبائي ، ومجمع "البيان" للعلامة الفضل بن حسين الطبرسي ، اتفقت على أن المكان القصي هو المكان البعيد الذي لم يحدد موقعه . أما المخاض ، فكان عند جذع نخلة ، والتعبير بجذع النخلة دون النخلة ، لكونها يابسة غير خضراء .
عندما سألت النسوة : لماذا تحيين ذكرى وفاة السيدة مريم ؟ أشارت إحداهن
إلى أن السبب في ذلك هو قداستها وعبادتها وطهارتها ، وقالت أخرى : لأنها تشبه السيدة فاطمة الزهراء في طهارتها وقدسيتها وما جرى على ابنيهما من ظلم من الأمة ، وأجابت ثالثة : ربما للأن موضع ولادة المسيح هو موضع استشهاد الإمام الحسين (ع ) . لكن جميعهن اشرن إلى أنها عادة موروثة من الأمهات ، تستوجب النذورات الخاصة بما تأكله مريم من فواكه وعشب الأرض ، لتعاد الذكرى في كل عام ، ومعها تبقى مريم العذراء في النفوس شاهدة على أنها للجميع .
الكتاب الثاني جاء على شكل مستطيل ، يعرف لدى القارئات بالمجموع ، وسمي بذلك لأنه ، كما يبدو ، جمع أكثر من عشر روايات ، تسرد الأولى قصة السيدة زينب في الأسر ، وتنقل الثانية عن رجل يدعى أحمد بن الحجاج : "كنت نائما ليلة الثاني عشر من عاشوراء ، وكان قلبي بنار الحزن مسجورا" ، ثم ينقل عنه أنه قال : "رأيت واعية .." . وفي هذه الرولية ، يحكي رؤيته في منامه بأنه ألتقى طيرا ينوح على الإمام الحسين (عليه السلام) ، ودار حديث بينه وبين هذا الطائر الذي شهد فاجعة كربلاء . أما الثالثة ، فهي حول رواية الأكفان الأربعة ، وهي مأخوذة وفق ما جاء في الكتاب عن سلمان الفارسي ، كما جاء فيها رواية أبناء مسلم بن عقيل وغيرها .
الكتاب الثالث كان معظمه قصائد رثائية مع بعض الروايات ، أبرزها "في بعض الأخبار والعلوم ، أنه لم رجع زين العابدين علي ابن الحسين )عليه السلام) ..." . هذه الرواية تشير إلى الحوار الذي دار بينهما ، مع أشعار تتخلل إجابات الإمام (عليه السلام) حول ما أصابه في موقعة كربلاء .
القراءة الحسينية في المآتم في البحرين تستغرق وقتا مطولا ، وتستمر طوال العام صباحا ومساء . لذلك ، فإنها بحاجة إلى روايات تقرأ من خلال عدة مؤلفات تصيغ هذه المرويات والقصص ، وتتخللها بعض القصائد ، تجمع في كتاب يخطها أحد الكتبة الذين امتهنوا هذه المهنة ، في وقت يقل عدد من يجيد الكتابة ، إضافة إلى نذرة الكتب المطبوعة ، وبخاصة في بدايات القرن الماضي . لذا احتفظت أدراج المآتم النسائية القديمة بالكثير منها ، والتي تحتاج إلى مراجعة وتحقيق ، لكنها تزخر بتاريخ قديم وثري يرجع إلى أصالة المآتم في البحرين ، وأصالة من يحيي الشعائر الحسينية .
رملة عبدالحميد : باحثة بحرينية متخصصة في التاريخ الحديث . أعدت رسالة ماجستير حول البحرين بين العام 1939 والعام 1919 من خلال الوثائق البريطانية . تعد حاليا أطروحة دكتوراه حول التنظيمات السياسية والاجتماعية في البحرين 2001-1971
للتواصل عبر الإيميل history_r_h@yahoo.com
المصدر : أرشيفوا العدد السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق