تاريخ المآتم في المنامة
في المدينةِ التي غدت مركزا تجاريا مركزياً في القرنِ الثامنِ عشر، ومتطوراً بشكل سريع في القرنِ التاسعِ عشر؛ فإن أبرزَ ما صاحبَ هذا التشكل وما ميَّزهُ حتى اليوم هو التنوعُ والتعايشُ والتسامحُ الدينيُ والمذهبي.
في مدينةِ المنامة، حيثُ الذاكرةُ تتسعُ والجغرافيا تتجاوزُ نفسها باحتواءِ الجميع؛ مكانٌ يعرّفُ نفسهُ بالتعددِ والاختلاف، مكانٌ يحتوي عوالمَ لا تتقاطعُ إلا فيه.
المآتم مكوّنٌ أساسيٌ من نسيجِ المنامةِ منذ بداياتِ تأسيسها، ففي القرنِ التاسعِ عشر وبناءً على حركتها وسوقِ اللؤلؤ بها، ونتيجةً للوضعِ الماديِّ المربحِ من تجارةِ اللؤلؤ في البحرينِ عموماً، وفي المنامة خصوصاً، الذي تواصلَ حتى الرُبعِ الأولِ من القرن العشرين؛ ظهرت ونمت طبقةُ التجار من “الطواويش”، و”المسقّمين”، أو الممولين لرحلاتِ الغوص، و”النواخذة”، وسماسرة اللؤلؤ. من بين هؤلاء في العاصمة المنامة، اتجهَ البعضُ لإنشاءِ الحُسينيات بالمعنى المستقلِ لها كمبنى في قطعةِ أرضٍ أُوقفَت لهذا الغرضِ تحديداً قبل أن تكونَ هناكَ أوقاف ونظامٌ خاصٌ لها، وتسجيلٍ لكُلِ ما يدورُ فيها.
فامتلأت المنامةُ بكثافةِ المآتمِ حتى وصلَ عدَدُها التقريبيُ في العاصمةِ المنامة، أي المنامةِ التاريخية، وحدها 84 مأتما منها 46 للنساء.
فقد كانت مجالسُ الوعظِ والنواحةِ الحسينيةِ في البحرين تقامُ في المنازلِ أو في حُسينياتٍ متواضعةِ البناء من السعفِ وجذوعِ النخيل، ويقدَّرُ عددُ المآتم في البحرين عامة بحوالي ألفٍ وخمسمئةِ مبنًى مستقلٍ كحسينيةٍ يشمل كافةَ الأحجامِ في المباني والإمكانيات.
فما هي أقدمُ حسينيةٍ بُنيت في المنامة؟
وثائقيًا أثبتت بعض الوثائق المؤكدةُ وجود حسينياتٍ في المنامةِ بعد النصفِ الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد، مثل حسينيةِ البدع عام ألف وثمانمئة وثمانيةٍ وخمسين (العام 1858م). فقبل منتصف القرن التاسع عشر، تفرعَ من العاصمةِ المنامة القديمةِ حيٌ جديدٌ سُمي بالبدعِ نسبةً للمنطقةِ التي أُقيمَ بها. والبدْع، تعني المنطقةَ المنخفضةَ من الأرضِ، وبها مقوماتٌ زراعيةٌ.
وإن كانتْ بعضُ الرواياتِ الشفاهيةِ تعودُ بتأسيسِ بعضِ المآتم إلى الثُلثِ الأولِ من القرنِ التاسع عشر كحسينيةِ “الكرخانة- بن أمان” ألفٍ وثمانمئة وأربعةٍ وعشرين(1824) وبيت محمد حسين العريض عام ألفٍ وثمانمئة وخمسة وعشرين ، وبن رجب ألف وثمانمئة وخمسة وثلاثين (العام 1835)، و بن سلوم في حدود عام ألفٍ وثمانمئةٍ وأربعين1840م. ومأتم مدن عام ألف وثمانمئة واثنين وأربعين (العام 1842م). أو النصف الثاني من ذات القرن؛ مثل حسينية الحاج (خلف البقالي) في فريق “الحطب”، وتُطل على أهم شوارع المنامة التجارية. و رواية تأسيسها تعود لعام ألفٍ وثمانمئةٍ واثنين وستين 1862م تقريباً ،وحسينية الساكن في العام ألفٍ وثمانمئةٍ وستةٍ وستين 1866م ،و حسينية العريض عام ألف وثمانمئة وسبعين (العام 1870)، أما حسينية (أولاد بن ناصر)أو (المديفع حاليا)، فالمشهور أنها تأسست في العام ألفٍ وثمانِ مئةٍ وخمسةٍ وسبعين 1875م، على يد أحمد بن علي بن ناصروأخوته، وهو من تجارِ مجتمعِ اللؤلؤ في المنامةِ آنذاك.
وفي الجانبِ المقابل، قام أحمد بن علي بن ناصر كذلكَ بتأسيسِ حسينيةٍ أخرى سُميت فيما بعد بحسينية بن زبر، و ذلك كان في عام ألفٍ وثمانِ مئةٍ وواحدٍ وثمانين (188١م).
وأيضا في العام ذاته تأسست حسينية القصاب مجاورة لحسينية مدن .
وكذلكَ في نفسِ الفترةِ تأسست حسينيةُ العجمِ الكبيرة وربما كان قبل ذلك ،حيث كانت في موقعٍ آخر وكان البناءُ في بدايته من الخوص وجريد النخل والطين فيما يُسمى حينها بـ “البرستج” .
وتأسست الحسينيةُ المميزةُ بعزاء ما يُعرف في البحرين بموكب الزنجيل المعروف بحسينية الحاج عباس بن فضل عام ألف وثمانمئة وخمسة وتسعين (العام 1895)
واستمر بناءُ وتأسيسُ ووقفُ الحسينياتِ والمآتمِ في المنامةِ على هذا النحوِ متصلًا حتى القرنِ العشرين وازدادت أعدادُ المآتمِ الرجاليةِ والنسائيةِ في المنامة إلى أن وصلت إلى هذا النحوِ من الكثافةِ التي هي عليهِ اليوم.
للمآتم أدوارٌ عديدة، فهي تقيمُ المجالسَ الوعظيةَ والرثائية وتذكرُ مناقبَ الرسولِ الأعظم وآل بيته الكرام (ع) باستقطابِ خطباءَ محليين ومن خارجِ البحرين، وتروي قصةَ مقتلِ الحسين (ع) ومحاضراتٍ أخلاقيةٍ ودينيةٍ تهدفُ لتوعيةِ الأفراد. واستضافةِ المناسباتِ الاجتماعية.
و كانت المآتمُ أيضًا ملتقَى الأعيانِ والتجار، ورجال الدين، وأصحاب الحَلِ والعقدِ على المستوى الشعبي في المنامة والقرى، واستمرت طوال تاريخها بهذا الشكلِ وهي تستقطبُ الفعالياتِ الرسميةَ الكبيرةَ؛ مثل حفلِ تأبين حاكمِ البحرين الراحل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، ومبايعةِ نجله الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في ثلاثينيات القرن العشرين؛ التي تمّت في حسينيةِ بن رجب بحضور المعتَمِد السياسي البريطاني والمستشار (بلجريف)، وجمعٍ غفيرٍ من الشخصياتِ والوجهاءِ في البلاد.
وللنساءِ دورهنَّ البارزُ أيضًا في استحضارِ الشعائر الحسينيةِ والمراثي، فلهنَ مآتمهنّ الخاصة، يدربن بعضهن بعضًا على الخطابةِ بأطوارهنَّ وطريقتهن الخاصةِ ويشتركن معًا في طهي وإعداد الوجبات بغرض التوزيع.
كما تنشط مع الخطابةِ الرئيسيةِ فعالياتٌ مصاحبةٌ أهمها مواكبُ اللطمِ والزنجيلِ والطبخ والتوزيع، إضافةً لفعالياتٍ فنيّة وثقافية وصحية واجتماعية تنبثق من قيم الرسول الأكرمِ وأهل بيته عليهم السلام.
تبقى المنامة، أوسعُ الأماكنِ بتعدُدِهَا وتنوُعِها، باحترامها للآخر، وفهمها أن الجمالَ يكمنُ في الاتصالِ بالآخرين، في مَنحِهِم مساحتَهُم التي تليقُ بهم وبوجودهم المؤثر بها، تصيرُ المنامة أكبر وأكبر.
المصدر : موقع حكاية المنامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق