الخميس، 22 أغسطس 2019

كتاب أنا ملالا

أنا ملالا
ناضلت دفاعا عن حق التعليم وحاول طالبان قتلي
ملالا يوسفزاي
بالاشتراك مع كريستينا لامب

ملالا يوسفزاي
(بالأشتراك مع كريستينا لامب)
ناضلت دفاعا عن حق التعليم وحاول طالبان قتلي
ترجمة : أنور الشامي
سما للنشر
المركز الثقافي العربي

ملالا يوسفزاي
أنا ملالا

الكتاب
أنا ملالا

تأليف
ملالا يوسفزاي
(بالاشتراك مع كريستينا لامب)

ترجمة
أنور الشامي

الطبعة الأولى ٢٠١٤م

عدد الصفحات : ٤١٦

القياس : ١٤×٢١

الترقيم الدولي
ISBN : 978-9953-68-719-3

جميع الحقوق محفوظة

الناشر
المركز الثقافي العربي
الدار البيضاء - المغرب
ص . ب : ٤٠٠٦ (سيدنا)
٤٢ الشارع الملكي (الاحباس)
هاتف : ٠٥٢٢ ٣٠٣٣٣٩ - ٣٠٧٦٥١ ٠٥٢٢
فاكس : ٣٠٥٧٢٦ ٥٢٢ ٢١٢+
Email : markaz.casablanca@gmail.com

بيروت - لبنان
ص . ب : ٥١٥٨ - ١١٣ الحمراء
شارع جاندارك - بناية المقدسي
هاتف : ٧٥٠٥٠٧ ٠١ - ٣٥٢٨٢٦ ٠١
فاكس : ٣٤٣٧٠١ ١ ٩٦١+
Email : cca_casa_bey@yahoo.com

العنوان الأصلي للكتاب :
I Am Malala
by
Malala Yousafzai
with Christina Lamb

This edition published by
arrangement with Little, Brown,
and Company, New York,
New York, USA,
All rights reserved.

ملالا يوسفزاي

دخلت ملالا يوسفزاي الناشطة الباكستانية في مجال التعليم دائرة الضوء أول مرة من خلال مدونتها على موقع البي بي سي قسم الأردو ، حيث تحدثت خلالها عن الصعوبات التي يواجهها سكان وادي سوات في ظل حكم الطالبان . وكانت تكتب تحت اسم مستعار هو جول مكاي
واعتادت أن تتحدث عن نضال اسرتها في الدفاع عن حق فتيات مجتمعها في التعليم .
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2012، تعرضت ملالا لهجوم من أحد مسلحي الطالبان أصيبت خلاله بطلق ناري في رأسها وهي في طريق العودة إلى البيت على متن حافلة المدرسة. وقد نجت من الموت بأعجوبة وما زالت تواصل دعوتها ونضالها من أجل التعليم.
وتقديراً لشجاعتها ودعوتها للتعليم، نالت ملالا جائزة السلام الوطني في باكستان في العام 2011 وجائزة السلام الدولية للأطفال في العام ٢٠١٣م وقد أصبحت أصغر مرشح لنيل جائزة نوبل للسلام . وأدرجت ضمن القائمة القصيرة لمجلة تايم لشخصية العام وتلقت العديد من الجوائز الأخرى.
وما زالت ملالا تتزعم الجهود العالمية الرامية لإتاحة التعليم عبر صندوق ملالا ، وهو منظمة غير ربحية تضطلع ببرامج تعليمية تقودها المجتمعات المحلية وتدعم النشطاء في مجال التعليم عبر العالم.

كريستينا لامب

تُعتبر كريستينا لامب إحدى الصحفيات البارزات في العالم . فقد اضطلعت بدور رائد في التغطية الصحفية في باكستان وأفغانستان بداية من العام 1987. وتلقت تعليمها في جامعتي أكسفورد وهارفارد، وألفت خمسة كتب وفازت بعدد من الجوائز ، ومنها جائزة أفضل مراسل أجنبي في بريطانيا خمس مرات ، بالإضافة إلى نيلها لجائزة «بري باييه» ، وهي الجائزة الأرفع في أوروبا للمراسلين الحربين . وتعمل كريستينا حالياً لدى صحيفة صنداي تايمز وتعيش ما بين لندن والبرتغال برفقة زوجها وولدها.

إلى جميع الفتيات اللواتي واجهن إجحافاً وتم إسكاتهن.
معاً سوف نُسمع صوتنا .

تمهيد
يوم تغيّر عالمي

نشأت في بلد تأسس في منتصف الليل . وعندما كنت على شفا الموت كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار بقليل.
قبل عام مضى خرجت من البيت إلى المدرسة ، فلم أعد إليه مرة أخرى . تعرضت لطلق ناري من أحد مسلحي الطالبان ونقلت على أثره إلى خارج باكستان وأنا فاقدة للوعي . يزعم البعض أني لن أعود إلى وطني أبداً ، لكني أؤمن في قرارة نفسي بأني سأعود يوماً ما . وليس حرمان المرء من وطنه الذي يحبه بالأمر الهين .
والآن، عندما أفتح عيني مع إطلالة كل صباح، أجد نفسي تهفو إلى غرفتي القديمة الملأى بأشيائي ، وملابسي المتناثرة في أرجائها ، و جوائزي المدرسية التي تُزين أرففها، لكني بدلاً من ذلك ، أجدني في بلد يتأخر توقيتُه عن وطني الحبيب باكستان وعن بيتنا في وادي
سوات خمس ساعات ، بيد أن وطني يتأخر عن هذا البلد قروناً من الزمن . فهنا تتوفر كل أسباب الراحة التي تخطر على البال . فالمياه وتجري من كل صنبور، ساخنة أو باردة حسبما تشاء؛ والأنوار رهن ضغطة زر منك ، ليلاً كان ذلك أو نهاراً، فلا تحتاج إلى مصابيح زيت ؛ وأفران الطهو تعمل دون الحاجة إلى أسطوانة غاز يتعيّن جلبها من السوق . هنا يجد المرء كل ما هو عصري بين يديه ، وحتى
الطعام بوسعه أن يجده جاهزاً مطهواً في عبوات .
عندما أقف أمام شرفتي وأطل منها على الخارج ، أرى بنايات عالية ، وطرقات ممتدة وقد ازدحمت بسيارات تسير في طوابير منتظمة وسط شجيرات مصفوفة وحدائق مُشدّبة وتحيط بها أرصفة مُنسّقةً للمارة . أغمض عيني لبرهة وأعود إلى وادي سوات ، فأرى الجبال العالية وقد غطت قممها الثلوج ، والمروج الخضراء ، والأنهار العذبة الزرقاء ، وتعتري قلبي ابتسامة وهو ينظر إلى أهل سوات . يحملني خيالي إلى حيث مدرستي فيلتئم شملي بصديقاتي ومدرّسيني ، وأقابل صديقتي الحميمة مُنيبة فنجلس معاً نثرثر ونتبادل النكات كما لو أني لم أغادر الوادي قط .
ولكني أتذكر عندئذ أني في مدينة برمنغهام في إنجلترا.
كان الثلاثاء الموافق للتاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2012 ، هو اليوم الذي تغيّر فيه كل شيء . منذ البداية ، لم يكن أفضل أيامي لأنه جاء في غمرة الامتحانات المدرسية ، رغم أني ولكوني فتاة مُجدّة في دراستي لم أكن أبالي بها بقدر ما كانت تفعل بعض زميلاتين
في ذاك الصباح وصلنا كما هي العادة إلى مسار طيني ضيّق يتفرع من طريق حاجي بابا في ركب من عربات الريكشا بألوانها الزاهية وقد راحت تنفث دخان الديزل واكتظت كل منها بخمس فتيات أو ست.
منذ ظهور الطالبان لم تعُد مدرستنا تحمل لوحة باسمها ولم يعُد بابها النحاسي بمنمناته الزخرفية والمثبت في سور أبيض مقابل ساحة قطع الأخشاب ، يُشي على أي نحو بما يحجب وراءه.
كان ذلك المدخل بمثابة الباب السحري الذي يفضي بنا نحن الفتيات إلى عالمنا الخاص ، فما إن نجتازه حتى نلقي بأغطية رؤوسنا مثلما تدفع الريح الغيوم فتنبلج عن الشمس ثم تركض في هرجٍ ومرجٍ ونحن نرتقي درجا يؤدي إلى فناء تنفتح عليه أبواب الصفوف كلها حيث نلقي بحقائب ظهورنا ثم نتجمع لطابور الصباح ونقف في حالة أنتباه لا تظللنا سوى السماء فيما ظهورنا إلى الجبال . تأمرنا فتاة : "مدرسة صفا" فنضرب الأرض بكعوبنا مرة أخرى قائلات ، "الله" .
تأسست المدرسة بمبادرة من والدي قبل مولدي ، وقد خطت على حائطها عبارة " مدرسة خوشال" بأحرف بارزة باللونين الأحمر والأبيض . كنا نذهب إلى المدرسة ستة أيام في الأسبوع ، ومع للوعي الخامسة عشرة من عمري وانتقالي للصف التاسع ، أصبحنا نمضي خصصنا الدراسية تارة في ترديد المعادلات الكيميائية أو دراسة قواعد نحو اللغة الأردية ، وتارة أخرى في كتابة قصص باللغة الإنجليزية تحمل دروسا أخلاقية مثل : " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة" ، أو رسم أشكال توضيحية للدورة الدموية لأن معظم زميلاتي كن يردن أن يصبحن طبيبات . وهي أمور يصعب أن يتصور المرء أن أحدا قد يرى فيها تهديدا وخطرا . بيد أنه خارج المدرسة لم يكن يوجد ضجيج وصخب منجورا ، وهي المدينة الرئيسة في سوات ، فحسب ، بل يقبع أيضا أناس من قبيل الطالبان يرون أن الفتيات لا ينبغي لهن الذهاب إلى المدرسة .
بدأ ذلك الصباح مثل أي صباح ، وإن تأخرت بدايته قليلا عما هو معتاد . كان وقت امتحانات حيث تفتح المدرسة أبوابها في التاسعة بدلا من الثامنة ، وهو أمر حسن ، فلا أحب الاستيقاظ باكرا وبوسعي أن أظل نائمة رغم صياح الديكة وأصوات المؤذنين . وعادة ما تأتي محاولة إيقاضي الأولى من أبي ، فيقول " حان وقت أستيقاضك ، جاني مون" وهي عبارة تعني " حبيبتي" بالفارسية ، وقد دأب على مناداتي بذلك مطلع كل نهار . فكنت أتوسل إليه قائلة ، " بضع دقائق أخرى ، يا أبت ، أرجوك" ثم أغوص تحت الغطاء . ثم تأتي أمي تنادي "بيشو" وهي كلمة تعني "قطة" وهو الاسم الذي تناديني به .
عند هذه النقطة كنت أعي بالوقت وأصيح ، "بهابي ، سأذهب اليوم متأخرة ! " وبحسب ثقافتنا ، فإن كان رجل هو بمثابة أخيك وكل امرأة بمنزلة أختك . وهكذا يرى بعضنا بعضا ؛ ولذلك عندما اصطحب أبي زوجته إلى المدرسة أول مرة ، كان المدرسون يشيرون إليها بقولهم "زوجة أخي" أو"بهابي" . وهكذا بدأنا جميعا ننادي باسم " بهابي" الآن .
كنت أنام في غرفة طولية تقع في واجهة المنزل ، ولم تكن تضم من الأثاث إلا سريرا وخزانة ملابس اشتريتهما ببعض المال الذي نلته مكأفاة دعوتي للسلام في وادينا ومناصرتي لحق الفتيات في الالتحاق بالمدارس . وفوق بعض الأرفف كنت أضع كل الكؤوس البلاستيكية ذات اللون الذهبي والدروع التي أتسلمها عندما أحرز المركز الأول في صفي . ولم يحدث أن أخفقت في إحراز المركز الأول إلا مرتين ، وفي كلتيهما تفوقت علي منافستي وزميلتي ملكة النور . ولكن عزمت على ألا يحدث ذلك مرة أخرى أبدا .
لم تكن المدرسة بعيدة عن البيت ، واعتدت الذهاب إليها مشيا ، ولكني أصبحت منذ بداية العام الدراسي الأخير أستقل عربة الريكشا في الذهاب برفقة فتيات أخريات ثم العودة إلى البيت بحافلة المدرسة .
كان الطريق لا يستغرق سوى خمس دقائق بمحاذاة نهر صغير تنبعث منه رائحة كريهة ، ونمر خلاله بلوحة إعلانية ضخمة ل "معهد الدكتور همايون لزراعة الشعر" فنتنذر بأن أحد مدرسينا الصلع لا بد وقد ذهب إلى هناك بعد أن رأينا شعره ينبت فجأة من جديد . كنت أفضل ركوب الحافلة في العودة لأني لم أكن أتعرق فيها قدر تعرقي عندما أقطع المسافة مشيا ، ولأني كنت أستطيع الثرثرة فيها مع صديقاتي وتبادل القيل والقال مع عثمان سائق الحافلة ، الذي كنا نناديه "بهاي جان" وهي تعني أخ ، واعتاد إمتاعنا جميعا بحكاياته المسلية .
بدأت أستقل الحافلة بعد أن باتت والدتي تخشى من الطريق علي إن مشيت بمفردي ؛ فقد ظلت التهديدات تردنا على مدار العام ، تارة عبر صفحات الجرائد ، وتارة أخرى عبر تنبيهات أو رسائل ينقلها لنا الناس . أصبح القلق يساور والدتي بشأني ولكن الطالبان لم يتعرضوا لفتاة صغيرة قط ، ولذلك كان قلقي الأكبر هو أنهم ربما يستهدفون والدي ؛ فلقد دأب على التنديد بهم . وكان صديقه الحميم ورفيق دربه انتقاد الطالبان ، زاهد خان قد تلقى رصاصة في وجهه في آب / أغسطس وهو في طريقه إلى الصلاة ، وعلمت أن الجميع يقولون لوالدي ، "توخ الحذر ، فالدور عليك" .
كان الوصول لشارعنا بالحافلة متعذرا ، ولذلك كنت أضطر في طريق عودتي إلى البيت النزول من الحافلة على الطريق الموازي للنهر الصغير قبل أن أجتاز بوابة ذات قضبان حديد وأرتقي الدرج .
كنت أحسب أني إن تعرضت لهجوم ، فسيكون أعلى ذلك الدرج .
ومثل والدي ، كنت دائما ما أستغرق في أحلام اليقظة ، فأحيانا يشطح بي الخيال خلال الحصص الدراسية فأخال إرهابيا وقد برز لي وأطلق علي النار فوق ذلك الجسر . وكنت أسال نفسي ماذا عساي أن أفعل ؟ سوف أخلع حذائي وأضربه ، ولكني أعود وأقول إن فعلت ذلك ، فأي فرق بيني وبين هذا الإرهابي . سيكون الأحرى بي أن أدافع عن نفسي قائلة : "حسنا ، اقتلني ، ولكن أنصت إلي أولا . إنك سترتكب جرما بفعلتك هذه . لست أحمل أي ضغينة ضدك . فكل ما أريده هو أن تلتحق كل الفتيات بالمدرسة" .
لم ينتبني الهلع ، ولكني بدأت أتحقق من أن البوابة مقفلة ليلا وبدأت أناجي الله سائلة إياه عما يحدث لنا عندما نموت . اعتدت أن أقص على صديقتي الحميمة منيبة كل ما يقع لي ، فقد كنا نقطن شارعا واحدا ونحن صغيرتان ، وأصبحنا صديقتين منذ المدرسة الابتدائية ونتبادل كل الأشياء ، بداية من أغاني جاستن بيبر وسلسلة أفلام الشفق وصولا إلى أفضل كريمات تبييض البشرة .
كانت تحلم بأن تصبح مصممة أزياء رغم معرفتها بأن أسرتها لن توافق على ذلك أبدا ، ولذلك ظلت تردد أنها تريد أن تكون طبيبة . وفي مجتمعنا يصعب على الفتيات أن يمتهن أي مهنة عدا التدريس والطب ، هذا إن أتيح لهن أن يعملن أصلا ، لكني كنت مختلفة ؛ ولم أخف قط رغبتي في أن أصبح مخترعة أو سياسية وليس طبيبة . ولأن منيبة كانت على علم بكل ما يحدث لي ، فقد كنت أطمئنها قائلة : " لا داعي للقلق . فالطالبان لم يتعرضوا لفتاة صغيرة قط " .
عندما استدعيت الحافلة إلى المدرسة ركضنا عبر الدرج ، وقد حرصت الفتيات الأخريات جميعهن على تغطية وجوههن قبل أن يخرجن من الباب ويصعدن إلى الحافلة من الخلف . وهي في واقع الأمر شاحنة نقل تويوتا من طراز "داينا" وقد ثبتت فيها ثلاثة مقاعد طولية متوازية ، مقعد في اليمين ومقعد في اليسار وآخر يتوسطهما . اكتظت الحافلة بعشرين فتاة وثلاث مدرسات فيما جلست في ذاك اليوم على الجانب الأيسر بين منيبة وفتاة أخرى تصغرني بسنة اسمها شادية رمضان ، وقد ضممنا ملفات امتحاناتنا إلى صدورنا ووضعنا حقائبنا أسفل أقدامنا .
كان الطقس ضبابيا بعض الشيء ، وأتذكر أن الهواء داخل الحافلة كان حارا ولزجا إذ تأخر شتاء ذلك العام ولم تكن الثلوج قد تراكمت بعد الإ فوق جبال هندوكوش البعيدة . وكان المتكأ الذي نسند ظهورنا إليه بلا نوافذ ، فيما يتدلى على جانبي الحافلة غطاء سميك من البلاستيك بهت لونه بشدة وبات مغبرا تتعذر الرؤية من خلاله . لم يكن بوسعنا أن نرى عبر مؤخرة الشاحنة إلا جزءا ضئيلا من السماء وبصيصا من ضوء الشمس ، وكانت ثمة كرة صفراء من الغبار قد تجمعت في ذلك الوقت من النهار وراحت تغمر كل شيء .
أتذكر أن الحافلة انعطفت يمينا عند بلوغها الطريق الرئيس مبتعدة عن نقطة تفتيش تابعة للجيش كما تفعل دائما ، قبل أن تستدير للسير بمحاذاة ملعب الغولف المهجور . ولا تسعفني الذاكرة بأكثر من ذلك .
في أحلامي التي . أجدني فيها أتعرض لإطلاق النار يكون والدي برفقتي في الحافلة حيث يصاب بطلق ناري ، ثم أرى أناسا وقد انتشروا في المكان فيما أشرع أنا في البحث عنه .
وأما ما حدث في الواقع فهو أننا توقفنا فجاة ، حيث كانت توجد عن يسارنا مقبرة شير محمد خان ، وزير المالية لدى أول حاكم لوادي سوات ، وقد غطاها عشب كثيف ، وعن يميننا كان هناك مصنع يقوم بإعداد الوجبات الخفيفة . ولم يكن يفصلنا عن أقرب نقطة تفتيش للجيش سوى أقل من مائتي متر على الأرجح .
لم يكن بوسعنا رؤية ما يجري أمام الحافلة ، ولكن شابا ملتحيا يرتدي ملابس فاتحة اللون قد اعترض طريقنا ولوح للسائق بالوقوف .
" هل هذه هي حافلة خوشال ؟ " ابتدر الشاب سائقنا بالسؤال ، وهو سؤال رآه عثمان بهاي جان ساذجا لان أسم المدرسة كان ظاهرا على جانب الحافلة . فأجابه "نعم" .
قال الرجل : "أريد معلومات عن بعض الأطفال".
قال عثمان بهاي جان : "عليك بالتوجه إلى إدارة المدرسة".
وبينما كان يتحدث إليه ، كان ثمة شاب آخر بثياب بيضاء يدنو من مؤخرة الحافلة . قالت لي منيبة : "انظري ، إنه أحد هؤلاء الصحفيين الذين يأتونك طلبا للمقابلات" . منذ بدأت مشاركة والدي في دعوته لتعليم الفتيات والتنديد بالطالبان وأمثالهم ممن يريدون لنا أن نتوارى خلف الحجب ، أصبح الصحفيون ، بمن فيهم الأجانب ، يقصدوني كثيرا ، ولكن ليس على هذه الشاكلة وعلى قارعة الطريق .
كان الرجل يرتدي غطاء رأس باهت اللون ويغطي أنفه وفمه بمنديل كما لو كان مصابا بالبرد وتوحي هيئته بأنه طالب جامعي .
وقد دفع بنفسه عندئذ فوق المصد الخلفي للسيارة ثم مال نحونا مباشرة .
سأل : " من فيكم ملالا؟ " .
لم تحر أي منا جوابا ، ولكن فتيات عديدات وجهن أنظارهن نحوي . فقد كنت الوحيدة مكشوفة الوجه بينهن .
وهنا شهر مسدسا أسود اللون ، علمت لاحقا أنه كان من طراز كولت ٤٥ . بعض الفتيات لم تجدن بدا من الصراخ أما أنا فتحدثني منيبة بأني أعتصرت يدها .
تقول صديقاتي إنه قد أطلق ثلاث رصاصات ، الواحدة تلو الأخرى . أخترقت الأولى محجر عيني اليسرى وخرجت من تحت كتفي الأيسر . انحنيت إلى الأمام فوق حجر منيبة حيث انبجست الدماء من أذني اليسرى . ولذلك وجدت الرصاصتان الأخريان طريقهما إلى الفتاتين الجالستين إلى جواري .
فأصابت الثانية اليد اليسرى لشادية ، فيما اخترقت الثالثة كتفها الأيسر قبل أن تصيب الجزء العلوي من الذراع اليمنى ل كاينات رياض .
وقد أخبرتني صديقاتي لاحقا أن يد المسلح كانت ترتعش وهو يطلق النار .
عندما وصلنا إلى المستشفى كان شعري الطويل وحجر منيبة قد تضرجا بالدماء .
من فيكن ملالا ؟ أنا ملالا وهذه هي حكايتي .

القسم الأول
ما قبل طالبان

لأن يأتيني جسدك وقد مزقه الرصاص بشرف أهون عندي من أن يردني فرارك من المعركة
شعر بشتوني قديم

١
مولد بنت

عندما ولدت ، أشفق الناس في قريتنا على أمي فيما لم يهنئ أحد أبي . ولدت فجرا فيما كان آخر نجوم السماء يأفل ، وهو ما معتبره نحن البشتون فأل خير . لم يكن أبي يملك مالا للمستشفى أو للاستعانة بقابلة ، وأتت إحدى جاراتنا لمساعدة أمي في الولادة .
جاء المولود الأول لأبوي ميتا ، أما أنا فقد جئت إلى العالم أركل وأصرخ . ولدت أنثى في أرض تطلق الرصاص ابتهاجا بمولد الذكور ، أما البنات فيوارين عن الأنظار وراء الحجب ، فدورهن في الحياة لا يتعدى إعداد الطعام وإنجاب الأطفال .
ويعد يوما حزينا لدى معظم البشتون ذلك الذي تولد لأحدهم فيه أنثى ، ولذلك كان ابن عم والدي جيهان شير خان يوسفزاي أحد القليلين الذين جاءوا للاحتفال بمولدي ، بل وقدم حتى مبلغا من المال على سبيل الهدية . بيد أنه أحضر معه رسما لشجرة عائلة لقبيلتنا ، وهي آل دالوخيل يوسفزاي ، والتي تمتد حتى تصل مباشرة إلى والد والدي جدي لأبي ولا يظهر عليها سوى النسل الذكوري في العائلة ، أما والدي ، ضياء الدين ، ولكونه يختلف عن معظم رجال البشتون ، فقد أخذ الشجرة ، ورسم خطا يمتد من اسمه وفي نهايته كتب ، " ملالا " .
ضحك ابن عمه وقد اعترته الدهشة ، ولكن أبي لم يأبه بذلك . ويقول إنه قد نظر في عيني بعد مولدي فوقع حبي في قلبه . وقال للناس ، " أكاد أرى شيئا مغايرا في هذه الطفلة " وبلغ به الأمر أن طلب من أصدقائه أن يلقوا بالفاكهة المجففة والحلوى والنقود في مهدي ، وهو شيء لا نفعله عادة إلا مع الذكور .
أسماني والدي باسمي تيمنا باسم ملالاي مايواند ، وهي البطلة الأفغانية العظيمة . ويعتز البشتون الذين يتألفون من قبائل تتوزع ما بين باكستان وأفغانستان بأنفسهم أيما اعزاز ، وقد ظللنا على مدى قرون نعيش مثلما اعتدنا وفق نظام يسمى "تقاليد البشتون" وهو نظام يفرض علينا أن نكرم وفادة ضيوفنا ، وفيه تعلو قيمة الشرف أو "نانج" كل قيمة أخرى .
وأفضع أذى يمكن أن يصيب بشتونيا هو أن يلحق به عار ويفقد شرفه . وإحدى المقولات السائرة لدينا هي " بدون شرف ، فإن العالم لا يساوي شيئا " ونحن قوم كثيرا ما تنشب بيننا المشاحنات والخصومات حتى إن الكلمة التي نستخدمها للإشارة إلى ابن العم " تاربور " ، وهي ذاتها التي نستخدمها للإشارة للعدو .
ولكننا دائما ما نأتلف معا في مواجهة الغزاة الذين يحاولون غزونا .
ويتربى كل أطفال البشتون على قصة ملالاي وكيف كان اقتحامها لميدان المعركة مصدر إلهام للجيش الأفغاني الذي تمكن من إلحاق الهزيمة بالبريطانيين في العام ١٨٨٠ في واحدة من كبريات معارك الحرب الأنجلو أفغانية الثانية .
كانت ملالاي ابنة راع في مايواند ، وهي بلدة صغيرة تقع في السهول الترابية غرب قندهار . عندما كانت في سن المراهقة ، كان والدها والشخص المرتقب زواجه منها ضمن آلاف الأفغان الذين يحاربون الاحتلال البريطاني لبلدهم . توجهت ملالاي إلى ميدان المعركة برفقة نساء أخريات من القرية للعناية بالجرحى وسقياتهم .
رأت الرجال يخسرون المعركة ، وعندما رأت حامل الراية يسقط صريعا نزعت حجابها الأبيض ثم اقتحمت ميدان المعركة حتى أصبحت في طليعة المحاربين .
وأخذت تصيح : " يا حبي الصغير ! والله ، إذا لم تسقط في معركة مايواند ، فإن أحدا يبقيك حيا كي تظل رمزا للعار " .
لقيت ملالاي مصرعها وسط النيران ، ولكن كلماتها وشجاعتها ألهمت المحاربين من الرجال فأحدثوا تحولا في مسار المعركة ، واستطاعوا أن يدمروا كتيبة كاملة ، فيما يعد ضمن أسوأ الهزائم في تاريخ الجيش البريطاني . وقد شعر الأفغان بفخر بالغ إزاء تضحيتها وأقام آخر ملوكهم نصبا تذكاريا وسط كابل تخليدا لانتصار مايواند . وفي المدرسة الثانوية ، قرأت بعض روايات شيرلوك هولمز . ونحن البشتون ننظر إلى ملالاي باعتبارها نظيرة جان دارك ، ولذلك تحمل اسمها كثير من مدارس الفتيات في أفغانستان . ولكن جدي ، الذي كان عالم دين وفقيها للقرية ، لم ترق له تسمية أبي لي بهذا الاسم . وقال : " إنه اسم حزين . إنه يعني المهمومة " .
وقد اعتاد والدي عندما كنت رضيعة أن يغني لي أغنية لشاعر مشهور هو رحمة شاه سايل من بيشاور . وكان البيت الأخير فيها يقول : يا ملالاي مايواند ، انهضي مرة أخرى كي تفهمي البشتون أغنية الشرف ، فكلماتك الساحرة تجعل العالم يدور ، أتوسل إليك ، انهضي مرة أخرى
اعتاد والدي أن يروي حكاية ملالاي لكل من يأتي بيننا وقد أحببت الاستماع للحكاية والأغاني التي يغنيها والدي إلي ، وراق لي أن أجد اسمي يطوف الآفاق كلما ذكرها الذاكرون .
كنا نعيش في أجمل بقاع العالم قاطبة . إنه وادينا ، وادي سوات ، ومملكة سماوية من الجبال ، تتدفق منه شلالات المياه وتنبجس فيه البحيرات ذات الماء الصافي . " مرحبا بك في الجنة " ، هكذا كتب على لوحة يراها المرء عندما يدخل إلى الوادي . وفي الأزمنة الغابرة كان سوات يسمى " أوديانا " التي تعني " البستان " ، فيوجد لدينا حقول ملأى بالأزهار البرية وأشجار الفاكهة اللذيذة ، ولدينا مناجم للزمرد وأنهار ملأى بأسماك السلمون المرقط . وكثيرا ما يسمى الناس سوات بسويسرا الشرق - فلدينا منتجع التزلج الأول في باكستان . وكان أثرياء باكستان يأتون لقضاء عطلاتهم هنا والاستمتاع بالهواء النظيف والمشاهد الخلابة والمهرجانات الصوفية في الموسيقى والرقص . وكان يأتينا أيضا أجانب كثيرون كنا نسميهم " إنجليز " بغض النظر عن الدولة التي قدموا منها . وحتى ملكة إنجلترا أتت ، وأقامت في القصر الأبيض الذي شيده ملكنا ، والي سوات الأول ، من المرمر ذاته الذي شيد به تاج محل .
ونحن أيضا نمتلك تاريخا مميزا ، ورغم أن سوات اليوم تقع ضمن إقليم خيبر بختونخوا الباكستاني ، فإنها ظلت في الماضي منفصلة عن بقية باكستان . فقد كنا ولاية أميرية ، مثل ولايتي شترال ودير المجاورتين ، أما في الحقبة الاستعمارية فكان ملوكنا يدينون بالولاء لبريطانيا ، بيد أنهم يحكمون أرضهم . وعندما منح البريطانيون الهند استقلالها في العام ١٩٤٧م وقاموا بتقسيمها ، التحقنا بالدولة الوليدة عندئذ وهي باكستان وإن ظللنا نحظى بحكم ذاتي . استخدمنا الروبية الباكستانية ، ولكن فيما عدا السياسة الخارجية لم يكن يحق لحكومة باكستان التدخل في شؤوننا . وكان الوالي يقيم العدل ويحفظ السلام بين القبائل المتنازعة ، ويجمع ضريبة العشور التي يستعين بها في بناء الطرق والمستشفيات والمدارس .
لم تكن تفصلنا عن العاصمة الباكستانية إسلام أباد سوى مائة ميل إذا قيست المسافة في خط مستقيم بيد أنها كانت تبدو لنا وكأنها تقع في بلد آخر . كانت الرحلة إلى هناك تستغرق خمس ساعات على الأقل بالسيارة عبر ممر ملاكند ، وهو حوض شاسع من الجبال قاتل فيه أسلافنا القوات البريطانية بين قممه الجبلية الوعرة قبل زمن طويل تحت قيادة عالم دين اسمه ملا سعيد الله ( والذي عرفه البريطانيون باسم الفقير المجنون ) . وكان من بينهم ونستون تشرشل ، الذي ألف كتابا عن ذلك ، وما زلنا نسمي إحدى هذه القمم باسم " تشرشل بيكت " حتى وإن لم يثن ثناء حسنا على شعبنا . وفي نهاية الممر يوجد ضريح ذو قبة خضراء يلقي فيه الناس بالنقود امتنانا لدى اجتيازهم له بأمان .
لم يكن أحد ممن أعرف قد ذهب إلى إسلام أباد . وقبل أن تنشب الاضطرابات في وادينا ، كان معظم الناس ، مثلما هو حال والدتي ، لم يغادروا وادي سوات قط .
كنا نعيش في منجورا ، وهي كبرى المدن في الوادي ، أو بالأحرى المدينة الوحيدة .
وكانت في الأصل بلدة صغيرة ، بيد أن كثيرين هاجروا إليها قادمين من القرى المحيطة حتى أضحت مدينة مزدحمة وتفتقر للنظافة . وهي تضم فنادق وكليات ومضمار غولف وسوقا شهيرا نشتري منه مواد التطريز التقليدية والأحجار القديمة وأي شيء آخر يخطر ببالنا . ويتدفق عبرها نهر صغير اسمه مارجزار ، فيكتسب ماؤه لونا بنيا مشربا بالبني بسبب ما يطرح فيه من نفايات وأكياس بلاستيكية وليس ماؤه بصفاء مياه الأنهار التي تجري في المناطق الجبلية أو مثل نهر سوات الواسع الذي يتدفق خارج المدينة ، حيث اعتاد الناس اصطياد سمك السلمون المرقط وقضاء عطلاتهم .
كان منزلنا يقع في جولكادا ، التي تعني " حوض الأزهار " ، ولكنها كانت تسمى بوتكارا ، أو " مكان التماثيل البوذية " وعلى مقربة من بيتنا كان يوجد حقل تتناثر فيه أطلال غريبة مثل تماثيل لأسود رابضة وأعمدة مكسورة وأشكال بلا رؤوس ، وأغربها على الإطلاق ، مئات من المظلات الحجرية .
دخل الإسلام وادينا في القرن الحادي عشر الميلادي عندما غزاه السلطان محمود الغزنوي قادما من أفغانستان وأصبح حاكمنا ، ولكن سوات كانت في أزمنة غابرة مملكة بوذية . فقد وصل البوذيون إلى هنا في القرن الثاني وظل ملوكهم يحكمون الوادي لأكثر من ٥٠٠ عام .
وقد كتب مستكشفون صينيون حكايات تفيد بأنه كان يوجد ١٤٠٠ معبد بوذي عبر ضفتي نهر سوات ، وأن الصوت الساحر لأجراس هذه المعابد كان يدوي عبر أرجاء الوادي . تلاشت هذه المعابد منذ زمن طويل ، ولكن أينما ذهبت في سوات تقريبا ، تجد أطلالها متناثرة هنا وهناك وسط أزهار الربيع والورود البرية . وقد اعتدنا قضاء نزهاتنا بين صخور نقشت عليها تماثيل تظهر بوذا بدينا ومبتسما ويجلس القرفصاء على زهرة لوتس . وتشير حكايات كثيرة إلى أن " الرب بوذا " قد جاء بنفسه إلى هنا كي ينعم بالسكينة التي تسود المكان ، ويقال إن بعض رماده قد دفن في قبة عملاقة في الوادي .
كانت أطلال بوتكارا بقعة ساحرة لدينا في لعب الغميضة . وذات مرة جاءها بعض علماء الآثار الأجانب لإجراء حفريات وأخبرونا أنها كانت مزارا يحج إليه في الأزمنة الغابرة ، وأنها كانت ملأى بمعابد جميلة ذات قباب ذهبية يدفن فيها الملوك البوذيون .
وقد ألف والدي قصيدة أسماها " أطلال بوتكارا " ، وهي تلخص بدقة كيف يمكن للمعبد والمسجد أن يوجدا جنبا إلى جنب : " عندما يرتفع صوت الحق من المآذن ، / تعلوا الابتسامة محيا بوذا ، / وتتصل سلسلة التاريخ المكسورة " .
كنا نعيش بالقرب من جبال هندوكوش ، حيث يذهب الرجال لصيد الوعول والديكة الذهبية . كان منزلنا يتألف من طابق واحد ومبنيا بالخرسانة ، وإلى اليسار كان يوجد درج يؤدي إلى سطح واسع يكفينا نحن الصغار للعب الكريكيت فوقه . ولذلك كان هو مضمار لعبنا . وفي الغسق ، كان والدي وأصدقاؤه غالبا ما يتجمعون للجلوس هناك واحتساء الشاي . وكنت أحيانا أجلس على السطح أنا الأخرى وأشاهد الأدخنة المتصاعدة من نيران الطهو حولنا وأسمع صوت ضربات مضرب الكريكيت ليلا .
ويزخر وادينا بأشجار الفاكهة التي تثمر أفضل أنواع التين والرمان والخوخ ، وفي حديقة المنزل نزرع أشجار العنب والجوافة والكاكي . وكانت لدينا شجرة برقوق في الباحة الأمامية لمنزلنا تثمر أشهى الثمار ، وكنا دائما في منافسة مع الطيور حول من يسبق إليها أولا ؛ فقد كانت الطيور بما فيها نقار الخشب تحب تلك الشجرة .
ومما تسعفني به الذاكرة أني كنت أرى والدتي تكلم الطيور .
وكانت لدينا في ظهر المنزل شرفة مسقوفة تلتقي فيها النساء . ولأننا جربنا الشعور بالجوع ، فقد دأبت والدتي على أن تطهو طعاما زائدا وتوزعه بين الأسر الفقيرة . وإذا بقي منه شيء بعد ذلك ، فإنها تطعم منه الطيور . ونحن نحب أن نغني بلغة البشتو قصائد شعرية نسمي الواحدة منها " تابا " ، وهي تتألف من بيتين ، وكانت والدتي تنثر الأرز للطيور فيما تدندن بإحداهما : " لا تقتل الحمام في البستان / لأنك إذا قتلت واحدة ، فلن تأتي الأخريات " .
كنت أهوى الجلوس أعلى السطح والاستغراق في أحلامي ومشاهدة الجبال التي كان أعلاها جميعا هو جبل إلوم ذو الشكل الهرمي . وهو جبل يحظى بمكانة خاصة لدينا ودائما ما تزينه قلادة من السحب البيضاء نظرا إلى ارتفاعه الشاهق ، وتغطيه الثلوج حتى خلال أشهر الصيف . وقد تعلمنا في المدرسة أنه في سنة ٣٢٧ قبل الميلاد ، وحتى قبل مجيء البوذيين إلى سوات ، اجتاح الإسكندر الأكبر الوادي بآلاف من الفيلة والجنود وهو في طريقه من أفغانستان إلى السند ، فر سكان سوات إلى أعلى الجبل ظنا أنه سوف يعصمهم لكونه بالارتفاع وان آلهتهم سوف تدفع عنهم . ولكن الإسكندر الأكبر كان قائدا صاحب عزيمة لا تلين وصبر لا ينفذ ، فقد بنى سلما خشبيا واستطاع ان يصل بمقاليعه وسهامة إلى قمة الجبل . ثم صعد بعدئد الجبل كي يمسك بنجم جوبتر براها منه على عظم سلطانه .
ومن أعلى السطح كنت أشاهد الجبال تتغير مع اختلاف الفصول الأربعة للسنة . ففي الخريف تهب الرياح الباردة ، وفي الثلوج تكسو الثلوج البيضاء كل شيء ، وتتدلى من سطح المنزل كتلة ثلجية منسدلة تشبه الخناجر ونهوى تكسيرها . كنا نتسابق في العدو حول المكان ، ونبني مجسمات لرجال الثلج والدببة ونحاول الإمساك بندف الثلج . وأما في الربيع فإن الخضرة تكسو كل شيء في سوات ، وتتساقط أزهار شجر الكافور داخل المنزل ، فتغطي كل شيء باللون الأبيض ، وتحمل الرياح الرائحة الكريهة التي تنبعث من حقول الأرز بعيدا .
ولدت صيفا ، وربما هذا هو السبب في كونه فصلي المفضل بين فصول السنة ، رغم أن صيف منجورا صيف حار وجاف وتنبعث خلاله رائحة كريهة من النهر الصغير بسبب ما يطرح في مياهه من مخلفات .
عندما ولدت ، كنا نرزح تحت فقر شديد . وكان والدي وصديق له قد أسسا مدرستهما الأولى فيما كنا نعيش في كوخ متداع يتكون من غرفتين ويقع مقابل المدرسة . كنت أنام مع أمي وأبي داخل غرفة واحدة ، أما الغرفة الأخرى فكنا نخصصها للضيوف . لم يكن لدينا حمام أو مطبخ ، وكانت أمي تطهو الطعام على نار وقودها الخشب وتغسل ثيابنا من مياه صنبور في المدرسة . كان بيتنا دائما ممتلئا بضيوفنا الذين يفدون علينا من القرية ؛ إذ يعد إكرام وفادة الضيوف سمة رئيسة ضمن سمات ثقافة البشتون .
بعد سنتين من مولدي ، ولد أخي خوشال ، وقد ولد مثلي في البيت ، إذ كنا لم نزل قادرين على تحمل تكاليف المستشفى ، وقد أسمي المولود خوشال مثلما هي مدرسة والدي ، تيمنا بالبطل البشتوني خوشال خان خاتاك ، الذي كان محاربا شاعرا معا . كانت أمي تتوق لأن تضع ذكرا ، ولم تستطع إخفاء فرحتها بمولده واعتبرته قرة عينها . أما أنا فقد رأيته نحيلا وضئيلا ، مثل بوصة يمكن أن تقصفها الرياح . وبدا أن كل أمنية يتمناها تصبح بمنزلة الأمر الذي لا يُرد . فكان يرغب في شرب الشاي طول الوقت، شاينا التقليدي الممزوج بالحليب والسكر وحب الهيل ، ولكن حتى والدتي سئمت ذلك، وأعدّت له في نهاية الأمر شاياً جعلته شديد المرارة حتى فقد اشتهاءه له . أرادت أمي أن تشتري له سريراً جديداً - عندما ولدتُ
لم يتحمّل والدي تكلفة شراء سرير، ولذلك قبلوا من جيران لنا سريراً خشبياً قديماً كان قد استُعمل بالفعل ثلاث أو أربع مرات - ولكن والدي رفض قائلاً : ملالا تأرجحت في ذلك السرير ، وهو أيضاً يمكنه ذلك». ثم وعقب خمس سنوات تقريباً ، جاءنا ولد آخر هو أتال ، له عينان لامعتان ومحب للاستطلاع مثل السنجاب . بعد
ذلك ، قال والدي ، لقد اكتمل عقدنا . وبحسب المعايير السائدة في وادي سوات فإن أسرة تتألف من ثلاثة أطفال هي أسرة صغيرة ؛ إذ ينجب معظم الآباء سبعة أو ثمانية أطفال.
كنت ألعب غالباً مع خوشال لأنه لا يصغرني إلا بسنتين ، بيد أننا كنا كثيري الشجار معاً . كان يأتي إلى أمي باكياً فيما ألجأ أنا إلى أبي . فيسألني أبي : ماذا بك عزيزتي؟» مثله ، فقد ولدت مرنة المفاصل وكان بوسعي أن أثني أصابعي إلى الخلف ثنياً كاملاً . وكان كاحلاي يطقطقان عندما أمشي ، وهو ما يُوتر الكبار .
تتمتع والدتي بجمال فائق ، وكان أبي يهيم بها حباً كما لو أنها مزهرية هشة مصنوعة من الخزف ، فلم تمتد يده إليها بسوء قط ، وذلك على النقيض من رجال كثر لدينا . اسمها هو تور بكاي ويعني "المرأة ذات الضفيرة السوداء" رغم أن شعرها بني كستنائي . وهو اسم سمعه جدي لأمي ، جانشير خان ، وهو يستمع لراديو أفغانستان
قبيل مولدها بقليل . كم تمنيت لو كانت لي بشرتها ناصعة البياض وقسماتها الجميلة وعيناها الخضراوان ، ولكني بدلاً من ذلك ورثت عن أبي البشرة الشاحبة والأنف العريض والعينين البنيتين . في ثقافتنا يمتلك كل واحد كنية يدعى بها - وفضلاً عن «بيشو» ، التي كانت أمي تناديني بها منذ كنت رضيعة ، فإن بعضاً من بنات عمومتي
يدعونني «لاتشي» ، وهي تعني "الهيل" باللغة الأردية . وغالباً ما يكنى الأشخاص ذوو البشرة السوداء بالبيض فيما يُكنى قصار القامة بالطوال ، وهو جزء ممّا نمتلكه من خفة ظل وحساً للدعابة . أما أبي فكان معروفاً في أوساط العائلة باسم «خايستا دادا» ، وهي تعني «جميل».
عندما كنت في الرابعة من عمري تقريباً سألت أبي : "أبي، ما هو لون بشرتك؟ " فأجاب: " لست أدري ، أبيض قليلاً وأسمر قليلاً " .
فقلت له: " إنه أشبه باللون الذي ينتج عندما نمزج الحليب
بالشاي " .
ضحك كثيراً ، ولكنه كان في صباه يتحرّج كثيراً من بشرته الداكنة حتى إنه ذهب ذات مرة إلى الحقول كي يحصل على بعض حليب الجاموس ويغسل به وجهه ، ظناً أن ذلك سوف يجعل لون بشرته أفتح . ولم يرض عن لون بشرته إلا بعدما التقى أمي ، وأكسبه حب تلك الفتاة الجميلة ثقة بنفسه .
في مجتمعنا عادة ما يتم الزواج عبر العائلات ، ولكن زواج أبي وامي كان ثمرة حب . وبوسعي أن أظل أستمع إلى ما لا نهاية ودون ملل لحكاية لقائهما . لقد نشأ في قريتين متجاورتين في منطقة نائية في سوات العليا تسمى شانجلا وكان كلاهما يرى الآخر عندما يذهب
أبي للمذاكرة في بيت عمه الكائن بجوار بيت عمة أمي . تبادلا من النظرات ما يكفي لأن يعرفا أنّ كليهما يحب الآخر ، بيد أن الإفصاح عن مكنون تلك المشاعر كان أمراً محظورة في ثقافتنا . وعوضاً عن ذلك اكتفي بالقصائد التي ظل يرسلها إليها رغم كونها لا تستطيع قراءتها .
وهي تعلّق على ذلك بقولها : «أعجبني عقله» .
فيرد ضاحكاً: «أما أنا ، فأعجبني جمالها».
لم تعترض سبيل حبهما سوى مشكلة كبيرة واحدة ، وهي أن جدي الاثنين لم يتوافقا معاً . ولذلك عندما أفصح ابي عن رغبته في طلب يد أمي ، تور بكاي ، كان جلياً أن كلا الطرفين لن يرحبا بهذا الزواج . قال والده إن الأمر يرجع إليه ووافق أن يبعث الحلاق رسولاً ، وهي الطريقة التقليدية لدينا نحن البشتون في طلب الزواج .
رفض مالك جانشير خان الطلب ، ولكن أبي كان عنيداً وأقنع جدي بأن يبعث الحلاق مرة أخرى . كان مجلس جانشير خان ملتقى يتبادل فيه الناس الآراء حول شؤون السياسة ، وكان والدي كثيراً ما يتردد إلى هناك ، ولذلك كان لا بد لهما أن يتعارفا . ومع ذلك وضعه رهن الانتظار لتسعة أشهر ، وإن كان قد وافق في نهاية المطاف .
وتتحدر أمي من عائلة معروفة بنسائها القويات فضلاً عن رجالها المتنفذين . وقد ترملت جدتها فيما كان أبناؤها ما زالوا صغاراً ، وكان ابنها الأكبر جانشير خان قد حبس بسبب ثار قبلي مع عائلة أخرى رغم أنه لم يكن قد تجاوز التاسعة من عمره . ولإطلاق سراحه ، قطعت أربعين ميلاً سيراً على قدميها عبر الجبال حتى تطلب العون من
أحد أبناء عمومتها من ذوي النفوذ . وأحب أن والدتي كانت ستفعل الأمر نفسه معنا ، ورغم كونها لا تستطيع القراءة والكتابة ، فإن والدي يستشيرها في كل صغيرة وكبيرة ، ويخبرها بكل أحداث يومه ، حُلوها ومُرها . كانت تُقرّعه كثيراً وتقدّم له النصيحة بشأن أصدقائه وأيهم
مخلص له وأيّهم غير ذلك ، وكان والدي دائماً ما يقول إنها على صواب . وهو أمر لا يفعله معظم رجال البشتون ، فمشاركة المشكلات مع النساء تُفسّر لدينا بأنها علامة ضعف ، فيقول قائلهم : «إنه يستشير حتى زوجته!» عندما أنظر إلى أبوي أراهما سعيدين وكثيري الضحك . وعندما ينظر الناس إلينا ، يقولون إننا أسرة سعيدة .
وتتسم أمي بالورع وشدّة التقوى وهي تحرص على الصلوات الخمس ، وإن كانت لا تؤديها في المسجد الذي يظل مقصورة على الرجال . تستهجن الرقص لأن الله ، على حدّ قولها ، لا يرضاه ، ولكنها تحب أن تتزين بالأشياء الجميلة مثل الملابس المطرزة ولبس القلائد والأساور الذهبية . ولذلك أظني قد خيّبت أملها بعض الشيء
نظراً إلى كوني أشبه والدي كثيراً ولا أعبأ بالملابس والحلي . أشعر بالسأم من التردد إلى الأسواق ولكني أحب الرقص خلف الأبواب الموصدة مع صديقات المدرسة .
كنا نمضي معظم وقتنا ونحن صغار برفقة والدتنا خلال سنوات النمو ، فقد كان والدي يقضي وقتاً طويلاً خارج المنزل لانشغاله ، ليس بشؤون مدرسته فحسب ، بل بالجمعيات الأدبية ومجالس القوم أيضاً ، بالإضافة إلى جهوده في الحفاظ على البيئة وعلى وادينا .